العلاج بالكي:
قد يكون آخر الدواء الكي، وهذا الذي تشير إليه أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والعلاج بالكي كان مشهورا عند العرب قبل الإسلام، فجاء الإسلام فأقرهم باستخدام هذا العلاج مع الكراهة في استخدامه، فمتى يستخدم هذا العلاج، وما أهمية، هذا ما سنراه في هذا المطلب من أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
النصوص وشرحها:
1- عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (الشفاء في ثلاثة: في شرطة محجم، أو شربة عسل، أو كية بنار، وأنا أنهى أمتي عن الكي) ([1]) كية نار: أن تحمى حديدة بالنار ويمس بها موضع الألم من الجسم.
أنهى: نهي كراهة لا نهي تحريم، وحكمة النهي عنه ما فيه من التعذيب والألم الشديد لمظنة الشفاء ([2]).
2- وعن عاصم بن عمر بن قتادة قال سمعت جابر بن عبد الله قال سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن كان في شيء من أدويتكم خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة بنار توافق الداء، وما أحب أن أكتوي ) ([3]).
لذعة: إصابة خفيفة.
توافق الداء: متحقق منها أنها تكون سببا لزوال الداء لا على سبيل التخمين والتجربة ([4]).
شرح الإمام ابن حجر:
((قال الخطابي: انتظم هذا الحديث على جملة ما يتداوى به الناس ..وأما الكي فإنما يستعمل في الخلط الباغي الذي لا تنحسم مادته إلا به، ولهذا وصفه النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم نهى عنه، وإنما كرهه لما فيه من الألم الشديد، والخطر العظيم ولهذا كانت العرب تقول في أمثالها: آخر الدواء الكي، وقد كوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ وغيره واكتوى غير واحد من الصحابة قلت: ولم يرد النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحصر في الثلاثة فإن الشفاء قد يكون في غيرها ، وإنما نبه بها على أصول العلاج)) ([5]).
توافق الداء: ((توافق الداء فيه إشارة إلى أن الكي إنما يشرع منه ما يتعين طريقا إلى إزالة ذلك الداء، وأنه لا ينبغي التجربة لذلك ولا استعماله إلا بعد التحقق، ويحتمل أن يكون المراد بالموافقة موافقة القدر)) ([6]).
وجاء في كتاب عون المعبود ([7]): ((الكي عند الضرورة بالابتلاء بالأمراض المزمنة التي لا ينجع فيها إلا الكي ويخاف الهلاك عند تركه، ألا تراه كوى سعدا لما لم ينقطع الدم من جرحه وخاف عليه الهلاك من كثرة خروجه كما يكوى من تقطع يده أو رجله، وقال ابن قتيبة ([8]): الكي جنسان: كي الصحيح لئلا يعتل، فهذا الذي قيل فيه: لم يتوكل من اكتوى؛ لأنه يريد أن يدفع القدر عن نفسه.
والثاني: كي الجرح إذا لم ينقطع دمه بإحراق ولا غيره والعضو إذا قطع، ففي هذا الشفاء بتقدير الله تعالى، وأما إذا كان الكي للتداوي الذي يجوز أن ينجح ويجوز أن لا ينجح فإنه إلى الكراهة)) ([9]).
3- وعن عمران ([10]) قال: قال نبي الله صلى الله عليه وسلم :( يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفا بغير حساب، قالوا: ومن هم يا رسول الله قال: هم الذين لا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم، قال أنت منهم، قال: فقام رجل فقال: يا نبي الله، ادع الله أن يجعلني منهم، قال: سبقك بها عكاشة) ([11]).
قال السيوطي في شرح مسلم:
((قال الخطابي ([12]) وغيره: المراد من ترك ذلك توكلا على الله ورضي بقضائه وبلائه، قال النووي ([13]): وهو الظاهر من معنى الحديث، قال: وحاصله أن هؤلاء كل تفويضهم إلى الله تعالى فلم يتسببوا إلى دفع ما أوقعه بهم، قال: ولا شك في فضيلة هذه الحالة ورجحان صاحبها، قال: وأما تطبب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ففعله ليبين لنا الجواز)) ([14]).
وقال ابن حجر: ((قوله (باب من اكتوى أو كوى غيره وفضل من لم يكتو) كأنه أراد أن الكي جائز للحاجة، وأن الأولى تركه إذا لم يتعين، وأنه إذا جاز كان أعم من أن يباشر الشخص ذلك بنفسه أو بغيره لنفسه أو لغيره، وعموم الجواز مأخوذ من نسبة الشفاء إليه في أول حديثي الباب، وفضل تركه من قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (وما أحب أن أكتوي) ([15]))) ([16])
المكتشفات العلمية.
المقصود بالكي قديما: أن تحمى حديدة بالنار ويمس بها موضع الألم من الجسم، وهذا كما جاء في شرح أحاديث الكي، وكانت تستعمل لمداواة كثير من الحالات المرضية وذلك لانتشارها وعدم وجود البديل لها.
أما المقصود بالكي حديثا: فقد تنوعت استخدامات أساليب الكي للعلاج، ومع تطور العلم تطورت بعض أساليب الكي للعلاج فوجدت طرق حديثة ومنها: ((استعمال الأشعة العادية بأنواعها كافة كالأشعة السينية، وتحت الحمراء، وفوق البنفسجية، فهي تمثل الكي بالطريقة الحديثة، والطب لا يلجأ إلى الكي العلاجي إلا إذا فشلت الأساليب الأخرى للعلاج كالعقاقير الطبية، والجراحات المختلفة)) ([17]).
استعمالات الكي الكهربائي، أو الناري:
1- فتح المجامع القيحية كالدمل، والجمرة الحميدة، وميزة الكي هنا عن الشق بآلة حادة هي أن الكي يشق المجامع، ويخثر الأوعية الكائنة على مسير الشق فيسدها ويمنع نزفها كما يمنع دخول القيح، والجراثيم إلى الدورة الدموية.
2- قطع النسج، وكي النقاط النازفة أثناء العمل الجراحي بنفس الوقت عوضا عن ربطها وفي هذا توفير للوقت.
3- استئصال، وتخريب بعض الأورام الجلدية، وبعض الأورام المثانية.
4- يستعمل الكي في حالات الآلام المعندة التي لها أسباب عضوية كالآلام النفسية، وكذلك الآلام المعندة التي لها أسباب عضوية، ولكن لا يمكن إزالة هذه الأسباب العضوية مثل الآلام السرطانية ([18]).
تأثيرات الكي وآلية الاستفادة من الكي في حالات الآلام المعندة:
((تختلف تأثيرات الكي بحسب نوع المكواة ودرجة حرارتها، فالمكواة التي تكون بلون أحمر مبيض يكون فعلها سريعا وعميقا ولا تلتصق بالنسيج التي تكويها، ولا تقطع النزف، أما المكواة التي تكون بلون أحمر قاتم ففعلها أقل عمقا، وأقل سرعة، وتلتصق بالنسج التي تكويها وتقطع النزف.
أما آلية الاستفادة من الكي في حالة الآلام المعندة: هي إحداث تنبيه شديد للجملة العصبية التي تخضع أساسا لتنبيه المرض، وفي هذه الحالة تستجيب الجملة العصبية للتنبيه الأشد وتنسى التنبيه الأضعف، أي تستجيب لتنبيه الكي وتنسى تنبيه المرض وعندما يزول تنبيه الكي قد لا يعود تنبيه المرض لنسيانه من قبل الجملة العصبية)) ([19]).
اوجه الإعجاز:
أخبرنا الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عن العلاج بالكي قبل أربعة عشر قرنا فأخبرنا:
1- أن الكي أصل من أصول العلاج.
2- أن الكي يفيد في العلاج بشرط موافقة للداء حيث خصصه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (أو لذعة بنار توافق الداء) وأنه لا ينبغي استخدامه بالتخمين والتجربة بل بعد التأكد من فائدته وعند الضرورة، وكما يقول الإمام السيوطي: ((ذكر الكي لأنه يستعمل عند عدم نفع الأدوية المشروبة ونحوها فآخر الطب الكي)) ([20])
3- مفهوم الأحاديث النبوية في الكي تبين أته لا ينبغي استخدامه للعلاج إلا لضرورة، ولذلك كان المراد بنهي الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في بعض الأحاديث نهي كراهة لا تحريم.
والطب الحديث اليوم وبعد مرور أكثر من ألف وأربعمائة عام لا يزال يستخدم الكي في العلاج بطرقه المختلفة ويعتبره أصلا في العلاج عند الضرورة، ولذلك جاء في موسوعة الإعجاز العلمي عن الكي قولهم: ((والطب لا يلجأ إلى الكي العلاجي إلا إذا فشلت الأساليب الأخرى للعلاج كالعقاقير الطبية، والجراحات المختلفة)) ([21])
فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم سبقهم بوضع أصول العلاج وبوضع قواعد استخدام العلاج بالكي
([1]) صحيح البخاري: كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاثة: تحقيق د. مصطفى ديب البغا (5/2151) برقم (5357).
([2]) صحيح البخاري: كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاثة: تعليق: د. مصطفى ديب البغا (5/2151).
(3) صحيح البخاري: كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاثة (5/2152) برقم (5359)، تحقيق د. مصطفى ديب البغا، وصحيح مسلم: كتاب السلام، باب لكل داء دواء واستحباب التداوي (4/1729) برقم (2205).
([4]) صحيح البخاري: كتاب الطب، باب الشفاء في ثلاثة: تعليق: د. مصطفى ديب البغاء (5/2152).
([5]) فتح الباري لابن حجر (10/138).
[6]) فتح الباري لابن حجر (10/141).
([7]) عون المعبود شرح سنن أبي داود، لمحمد شمس الحق العظيم آبادي أبو الطيب (10/246).
. ([9]) عون المعبود شرح سنن أبي داوود (10/246).
([10]) عمران بن حصين بن عبيد بن خلف الخزاعي أبو نجيد، أسلم هو وأبو هريرة عام خيبر، استقضاه عبد الله بن عامر على البصرة ثم استعفاه وكان الحسن البصري يحلف بالله ما قدمها راكب خير من عمران بن حصين قلت وكذا قال بن سيرين ومات بالبصرة بها سنة 52 ه. انظر: الإصابة لابن حجر (4/705).
([11]) صحيح البخاري (5/2396) برقم (6175) وصحيح مسلم (1/198) برقم (218) واللفظ لمسلم.
[14]) شرح السيوطي على مسلم المسمى الديباج شرح صحيح مسلم بن الحجاج: عبد الرحمن ابن أبي بكر أبو الفضل السيوطي (1/278).
([16]) فتح الباري لابن حجر (10/155).
([17]) موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية الشريفة. د. عبد الرحيم مارديني (ص: 749)، دار المحبة، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى (2006 م -2007 م).
([18]) انظر: الإعجاز الطبي في السنة النبوية د.كمال المويل (ص: 57).
([19]) الإعجاز الطبي في السنة النبوية د.كمال المويل (ص: 57، 58).
([20]) شرح السيوطي على مسلم (5/220).
([21]) موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة النبوية الشريفة. د. عبد الرحيم مارديني (ص: 749).
ليست هناك تعليقات